فصل: المسألة السادسة: بلاغة القرآن برهان على المرسَل به صلى الله عليه وسلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الخامسة: انجذاب البشرية للدين- من أول وهلة- دليل آخر على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم:

في بيان صحيفة عصر السعادة لاسيما مسألة جزيرة العرب. فها هنا أيضًا أربع نكت:
إحداها: إنك إذا تأملت في العالم ترى أنه قد يتعسر ويستشكل رفع عادة ولو حقيرة في قوم ولو قليلين. أو خصلة ولو ضعيفة.. في طائفة ولو ذليلين.. على ملِك ولو عظيما.. بهمّة ولو شديدة. في زمان مديد بزحمة كثيرة. فكيف أنت بمن لم يكن حاكما، تشبث في زمان قليل بهمة جزئية- بالنسبة إلى المفعول- وَقَلَعَ عاداتٍ وَرَفَعَ أخلاقًا قد استقرت بتمام الرسوخ واستؤنس بها نهاية استيناس واستمرت غاية استمرار، فغرس فجأة بدلها عادات وأخلاقًا تكملت دفعة عن قلوب قوم في غاية الكثرة ولمألوفاتهم في نهاية التعصب. أفلا تراه خارقًا للعادات؟
النكتة الثانية: هي أن الدولة شخص معنويّ. تشكُّلُها تدريجيّ كنمو الطفل، وغلَبتُها للدولة العتيقة- التي صارت أحكامُها كالطبيعة الثابتة لملتها- متمهلة. أفلا يكون حينئذ من الخارق لعادةِ تشكّل الدول تشكيلُ محمّد عليه السلام لحكومةٍ عظيمةٍ دفعةً، مهيئة لنهاية الترقي، متضمنة للأساسات العالية الأبدية مع غلبتها للدول العظيمة دفعة مع ابقاء حاكميته لا على الظاهر فقط، بل ظاهرًا وباطنًا ومادةً ومعنىً.
النكتة الثالثة: هي أنه يمكن بالقهر والجبر تحكم ظاهريّ، وتسلط سطحيّ. لكن الغلبة على الأفكار، والتأثير بالقاء حلاوته في الأرواح، والتسلط على الطبائع مع محافظة حاكميته على الوجدان دائما لا يكون إلا من خوارق العادات.. وليس إلا الخاصة الممتازة للنبّوة.
النكتة الرابعة: هي أن تدوير أفكار العموم وارشادها بحيل الترهيب والترغيب والخوف والتكليف إنما يكون تأثيرها جزئيا سطحيًا موقتا يسدّ طريق المحاكمة العقلية في زمان. أما من نفذ في أعماق القلوب بارشاده، وهيج دقائق الحسيات، وكشف اكمام الاستعدادات، وأيقظ الأخلاق، وأظهر الخصائل المستورة، وجعل جوهر انسانيتهم فوارًا، وأبرز قيمة ناطقيتهم؛ فإنما هو مقتبس من شعاع الحقيقة ومن الخوارق للعادة. بينما ترى شخصا في قساوة قلبه يقبر بنته حيةً ولا يتألم ولا يتأثر إذ تراه بعد يوم- وقد اسلم- يترحّم على نحو النمل، ويتألم بألم حيوان. فبالله عليك أينطبق هذا الانقلاب الحسي على قانون؟
فإذا عرفت هذه النكت تأمل في نقطة أخرى وهي أن تاريخ العالم يشهد أن الداهيَ الفريدَ إنما هو الذي اقتدر على انعاش استعداد عموميّ، وايقاظ خصلة عمومية، والتسبب لانكشاف حسّ عموميّ؛ إذ مَن لم يوقظ هكذا حسّا نائما يكون سعيُه هباء موقتا ولو كان جليلا في نفسه.. وأيضا أن التاريخ يرينا أن أعظم الناس هو الموفَّق لايقاظ واحد أو اثنين أو ثلاث من هذه الحسِّيات العمومية: كحس الحمية الملّية، وحس الاخوة، وحس المحبة، وحس الحرية. إلخ. أفلا يكون إذا ايقاظ الوف من الحسِّيات- المستورة العالية، وجعلها فوّارة منكشفة في قوم بَدَوييّن منتشرين في جزيرة العرب تلك الصحراء الوسيعة- من الخوارق؟ نعم.! هو من ضياء شمس الحقيقة.
فيا هذا! من لم يُدخل في عقله هذه النقطة نُدْخِل جزيرةَ العرب في عينه. فهذه جزيرة بعد ثلاثة عشر عصرًا وبعد ترقي البشر في مدارج التمدن!.. فانتخِب أيها المعاند من أكمل الفلاسفة مائة، فليسعوا مائة سنة فإن فعلوا جزءًا من مائة جزء مما فعله محمّد العربي عليه الصلاة والسلام بالنسبة إلى زمانه... فإن لم تفعل- ولن تفعل- فاتّق عاقبة العناد! نعم، هذه الحالة خارقة للعادة وأن هي إلا معجزة من معجزاته عليه الصلاة والسلام.
واعلم أيضًا: أن من اراد التوفيق يلزم عليه أن يكون له مصافاة مع عادات الله، ومعارَفَة مع قوانين الفطرة، ومناسبة مع روابط الهيئة الاجتماعية. والاّ، أجابته الفطرة بعدم الموفَّقية جوابَ إسكات.
وأيضًا مَن تحرك بمسلك في الهيئة الاجتماعية يلزمه أن لا يخالف حركة الجريان العموميّ. والاّ، طيّره ذلك الدولاب عن ظهره فيسقط في يده. فإذا من ساعده التوفيق في ذلك الجريان كمحمّد عليه السلام يثبت أنه متمسك بالحق.
فإذا تفهمت هذا، تأمل في حقائق الشريعة مع تلك المصادمات العظيمة والانقلابات العجيبة، وفي هذه الأعصار المديدة تَرَها قد حافظت على موازنة قوانين الفطرة وروابط الاجتماعيات اللاتي بدقتها لا تتراءى للعقول مع كمال المناسبة والمصافاة معها. فكلما امتد الزمان تظاهر الاتصال بينها. ويتظاهر من هذه الحالة؛ أن الاسلامية هي الدين الفطريّ لنوع البشر وانها حق، لهذا لاينقطع أن رقّ. ألا ترى أن الترياق الشافي للسموم القاتلة في الهيئة الاجتماعية إنما هو أمثال حرمة الربا ووجوب الزكاة اللتين هما مسألتان في ألوف مسائل تلك الشريعة.
فإذا عرفت هذه النكت الأربع مع هذه النقط الثلاث، اعلم! أن محمدًا الهاشميّ عليه الصلاة والسلام مع أنه أمي لم يقرأ ولم يكتب، ومع عدم قوته الظاهرية وعدم حاكميته له أو لسلفه، وعدم ميل تحكم وسلطنة، قد تشبث بقلبه بوثوق واطمئنان في موقع في غاية الخطر وفي مقام مهم، بأمر عظيم فغلب على الأفكار، وتحبب إلى الأرواح، وتسلط على الطبائع، وقلع من أعماق قلوبهم العادات والأخلاق الوحشية المألوفة الراسخة المستمرة الكثيرة. ثم غرس في موضعها في غاية الإِحكام والقوة- كأنها اختلطت بلحمهم ودمهم- أخلاقا عالية وعادات حسنة، وقد بدل قساوة قلوب قوم خامدين في زوايا الوحشة بحسيات رقيقة وأظهر جوهر انسانيتهم. ثم أخرجهم من زاوية الوحشة وَرقي بهم إلى اوج المَدَنية وصيّرهم معلِّمي عالَمهم، وأسَّس لهم دولةً ابتلعت الدول كعصا موسى فلما ظهرت صارت كالشعلة الجوّالة والنور النّوار فاحرقت روابط الظلم والفساد، وجعل سرير تلك الدولة الدفعية في زمان قليل الشرقَ والغربَ. أفلا تدل هذه الحالة على أن مسلكه حقيقة وانه صادق في دعواه؟

.المسألة السادسة: بلاغة القرآن برهان على المرسَل به صلى الله عليه وسلم:

في صحيفة المستقبل لاسيما مسألة الشريعة.
ولابد من ملاحظة أربع نكت في هذه المسألة:
إحداها: أن شخصًا ولو خارقًا إنما يتخصص ويصير صاحب ملَكة في أربعة فنون أو خمسة فقط.
النكتة الثانية: إن كلامًا واحدًا قد يتفاوت بصدوره عن متكلمين، فكما يدل على سطحية أحد وجهله.. يدل على ماهرية الآخر وحذاقته مع أن الكلام هو الكلام؛ إذ أحدهما لما نظر إلى المبدأ والمنتهى، ولاحظ السياق والسباق، واستحضر مناسبته مع أخواته، ورأى موضعًا مناسبا فأحسن الاستعمال فيه، وتحرى أرضا منبتة فزرعه فيها؛ ظهر منه أنه خارق وصاحب ملكة فيما هذا الكلام منه. وكل فذلكات القرآن الكريم من الفنون وملتقطاته إنما هي من هذا القبيل.
النكتة الثالثة: هي أن كثيرًا من الأمور العادية الآن- بسبب تكمل المبادئ والوسائط حتى يلعب بها الصبيان- لو كانت قبل هذا بعصرين لعدّت من الخوارق. فما يحافظ شبابيته وطراوته وغرابته على هذه الاعصار المديدة يكون البتة من خوارق العادات والعادات الخارقة.
النكتة الرابعة: هي أن الإرشاد إنما يكون نافعا إذا كان على درجة استعداد أفكار الجمهور الأكثر. والجمهور- باعتبار المعظم- عوام. والعوام لا يقتدرون على رؤية الحقيقة عريانةً ولا يستأنسون بها إلا بلباس خيالهم المألوف. فلهذه النكتة صوّر القرآنُ الكريم تلك الحقائق بمتشابهات وتشبيهات واستعارات وحفظ الجمهور الذين لم يتكملوا عن الوقوع في ورطة المغلطة. فأبْهَمَ وأهمَلَ في المسائل التي يعتقد الجمهورُ- بالحس الظاهريّ- خلاف الواقع ضروريا، لكن مع ذلك أومأ إلى الحقيقة بنصب امارات.
فإذا تفطنت لهذه النكت، اعلم! أن الديانة والشريعة الاسلامية المؤسسة على البرهان العقليّ ملخصة من علوم وفنون تضمنت العقد الحياتية في جميع العلوم الأساسية: من فن تهذيب الروح، وعلم رياضة القلب، وعلم تربية الوجدان، وفنّ تدبير الجسد، وعلم تدوير المنزل، وفن سياسة المدنية، وعلم نظامات العالم، وفن الحقوق، وعلم المعاملات، وفن الآداب الاجتماعية، وكذا وكذا وكذا. إلخ. مع أن الشريعة فسّرت وأوضحت في مواقع اللزوم ومظان الاحتياج، وفيما لم يلزم أو لم يستعد له الاذهانُ أو لم يساعد له الزمانُ اجملتْ بفذلكة ووضعت أساسا احالت الاستنباط منه وتفريعه ونشو نمائه على مشورة العقول. والحال أن كل هذه الفنون بل ثلثها بعد ثلاثة عشر عصرا- مع انبساط تلاحق الأفكار وتوسع نتائجها، وكذا في المواقع المتمدنة، وكذا في الأذكياء- لايوجد في شخص. فمن زيّن وجدانه بالانصاف يصدق بأن حقيقة هذه الشريعة خارجة عن طاقة البشر دائما لاسيما في ذلك الزمان، ويصدّق بمآل {لم تفعلوا ولن تفعلوا}.
والفضل ما شهدت به الأعداء:
فهذا قارلائيل فيلسوف امريكا نقل عن الأديب الشهير الالماني وهو كوته إذ قال بعد ما أمعن النظر في حقائق القرآن الكريم عجبا أيمكن تكمّل العالم المدني في دائرة الاسلامية؟ فأجاب بنفسه: نعم! بل المحققون الآن مستفيدون بجهة من تلك الدائرة. ثم قال الناقل: لما طلعت حقائق القرآن الكريم صارت كالنار الجوّالة وابتعلت سائر الاديان، فحُقَّ له؛ إذ لايحصل شيء من سفسطيات النصارى وخرافات اليهود. فصدّق ذلك الفيلسوف مآل {فأتوا بسورة من مثله} {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار}.
فإن قلت: أن القرآن الكريم وكذا مفسِّره- أعني الحديث- إنما أخذ من كل فن فذلكة، واحاطةَ فذلكاتٍ كثيرة ممكنة لشخص.
قيل لك: أن الفذلكة بحسن الاصابة في موقعها المناسب، واستعمالها في أرض منبتة مع أمور مرموزة غير مسموعة- قد اشرنا إليها في النكتة الثانية- تشفّ كالزجاجة عن ملكة تامة في ذلك الفن واطلاع تام في ذلك العلم فتكون الفذلكة في حكم العلم ولا يمكن لشخص أمثال هذه.
اعلم! أن نتيجة هذه المحاكمات هي أن تستحضر اوّلا ما سيأتي من القواعد وهي أن شخصًا لا يتخصص في فنون كثيرة.. وأن كلاما واحدًا يتفاوت من شخصين، يكون بالنظر إلى واحد ذهبًا وإلى الآخر فحمًا.. وأن الفنون نتيجة تلاحق الأفكار وتتكمل بمرور الزمان.. وأن كثيرًا من النظريات في الماضي صارت بديهية الآن.. وأن قياس الماضي على هذا الزمان قياس مثبط مع الفارق.. وأن أهل الصحراء لاتستر بساطتهم وصفوتهم الحيل والدسائس التي تختفي تحت حجاب المدنية.. وأن كثيرًا من العلوم إنما يتحصل بتلقين العادات والوقوعات وبتدريس الأحوال لطبيعة البشر باعداد الزمان والمحيط.. وأن نور نظر البشر لاينفذ في المستقبل ولا يرى الكيفيات المخصوصة.. وانه كما أن لحياة البشر عمرًا طبيعيًا ينقطع؛ كذلك لقانونه عمر طبيعيّ ينتهي البتة.. وأن للمحيط الزماني والمكاني تأثيرًا عظيمًا في أحوال النفوس.. وأن كثيرًا من الخوارق الماضية تصير عادية بتكمل المبادئ.. وأن الذكاء ولو كان خارقًا لا يقتدر على ايجاد فنٍ وتكميله دفعةً بل كالصبيّ يتدرج.
وإذا استحضرت هذه المسائل وجعلتها نصب عينيك فتجرَّد وتعرَّ من الخيالات الزمانية والأوهام المحيطية، ثم غُصْ من ساحل هذا العصر في بحر الزمان، مارًا تحته إلى أن تخرج من جزيرة عصر السعادة ناظرًا على جزيرة العرب!.. ثم ارفع رأسك والبس ما خاط لك ذلك الزمان من الأفكار، ثم انظر في تلك الصحراء الوسيعة!. فأول ما يتجلى لعينك: إنك ترى انسانا وحيدا لا معين له ولا سلطنة يبارز الدنيا برأسه.. ويهجم على العموم.. وحمل على كاهله حقيقة أجل من كرة الأرض.. وأخذ بيده شريعة هي كافلة لسعادة الناس كافة.. وتلك الشريعة كأنها زبدة وخلاصة من جميع العلوم الالهية والفنون الحقيقية.. وتلك الشريعة ذات حياة لا كاللباس بل كالجلد، تتوسع بنموّ استعداد البشر وتثمر سعادة الدارين، وتنظم أحوال نوع الإنسان كأهل مجلس واحد. فإن سُئلتْ قوانينُها من اين إلى اين؟ لقالت بلسان اعجازها: نجئ من الكلام الأزليّ ونرافق فكر البشر إلى الأبد، فبعد قطع هذه الدنيا نفارق صورةً من جهة التكليف ولكن نرافق دائما بمعنوياتنا واسرارنا فنغذي روحهم ونصير دليلهم.. فيا هذا أفلا يتلو عليك ما شاهدت الأمرَ التعجيزيَّ في {فأتوا بسورة من مثله} {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا}.الخ.
ثم اعلم أن آية: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا}..الخ: تشير إلى أن ناسًا- بسبب الغفلة عن مقصود الشارع في ارشاد الجمهور وجهلهم بلزوم كون الإرشاد بنسبة استعداد الأفكار- وقعوا في شكوك وريوب منبعها ثلاثة امور:
احدها: أنهم يقولون: وجود المتشابهات والمشكلات في القرآن الكريم منافٍ لإعجازه المؤسس على البلاغة المبنية على ظهور البيان ووضوحِ الافادة.
والثاني: أنهم يقولون: أن القرآن الكريم اطلق وأبهمَ في حقائق الخِلقة وفنون الكائنات مع أنه مناف لمسلك التعليم والارشاد.
والثالث: أنهم يقولون: أن بعض ظواهر القرآن الكريم اميل إلى خلاف الدليل العقلي فيحتمل خلاف الواقع وهو مخالف لصدقه.
الجواب- وبالله التوفيق- أيها المشككون اعلموا!. أن ما تتصورونه سببًا للنقص إنما هو شواهد صدق على سر إعجاز القرآن الكريم.
أما الجواب عن الريب الأول وهو وجود المتشابهات والمشكلات:
فاعلم! أن ارشاد القرآن الكريم لكافة الناس، والجمهور الأكثر منهم عوام، والأقل تابع للأكثر في نظر الارشاد. والخطاب المتوجه نحو العوام يستفيد منه الخواص ويأخذون حصتهم منه.. ولو عكس لبقي العوام محرومين، مع أن جمهور العوام لا يجردون اذهانهم عن المألوفات والمتخيلات، فلا يقتدرون على درك الحقائق المجردة والمعقولات الصرفة إلا بمنظار متخيلاتهم وتصويرها بصورة مألوفاتهم. لكن بشرط أن لايقف نظرُهم على نفس الصورة حتى يلزم المحال والجسمية أو الجهة بل يمر نظرهم إلى الحقائق.
مثلا: أن الجمهور إنما يتصورون حقيقة التصرف الالهي في الكائنات بصورة تصرف السلطان الذي استوى على سرير سلطنته. ولهذا اختار الكناية في {الرحمن على العرش استوى} وإذا كانت حسيات الجمهور في هذا المركز فالذي يقتضيه منهجُ البلاغة ويستلزمه طريقُ الإرشاد رعايةَ افهامهم واحترامَ حسياتهم، ومماشاة عقولهم ومراعاة أفكارهم. كمن يتكلم مع صبي فهو يتصبى في كلامه ليفهمه ويستأنس به. فالأساليب القرآنية في أمثال هذه المنازل المرعي فيها الجمهور تسمى بالتنزلات الإِلهية إلى عقول البشر، فهذا التنزل لتأنيس اذهانهم. فلهذا وضع صورَ المتشابهات منظارًا على نظر الجمهور. ألا ترى كيف أكثر البلغاء من الاستعارات لتصور المعاني الدقيقة، أو لتصوير المعاني المتفرقة! فما هذه المتشابهات إلا من أقسام الاستعارات الغامضة، إذ إنها صور للحقائق الغامضة.
أما كون العبارة مُشكلًا؛ فإما لدقة المعنى وعمقه، وايجاز الاسلوب وعلويته، فمشكلات القرآن الكريم من هذا القبيل.. وإما لإِغلاق اللفظ وتعقيد العبارة المنافي للبلاغة، فالقرآن الكريم مبرأ منه. فيا أيها المرتاب! أفلا يكون من عين البلاغة تقريب مثل هذه الحقائق العميقة البعيدة عن أفكار الجمهور إلى أفهام العوام بطريق سهل؟ إذ البلاغة مطابقة مقتضى الحال فتأمل.
أما الجواب عن الريب الثاني، وهو ابهام القرآن في بحث تشكل الخلقة على ما شرحته الفنون الجديدة:
فاعلم! أن في شجرة العالم ميلَ الاستكمال، وتشعَّبَ منه في الإنسان ميلُ الترقي، وميل الترقي كالنواة يحصل نشوّه ونماءه بواسطة التجارب الكثيرة، ويتشكل ويتوسع بواسطة تلاحق نتائج الأفكار؛ فيثمر فنونًا مترتبة بحيث لا ينعقد المتأخر إلا بعد تشكل المتقدم، ولا يكون المتقدم مقدمة للمؤخر إلا بعد صيرورته كالعلوم المتعارفة. فبناء على هذا السر لو أراد أحد تعليم فنٍ أو تفهيم علمٍ- وهو إنما تولد بتجارب كثيرة- ودعا الناس إليه قبل هذا بعشرة أعصر لا يفيد إلا تشويش اذهان الجمهور، ووقوع الناس في السفسطة والمغلطة.
مثلا: لو قال القرآن الكريم أيها الناس انظروا إلى سكون الشمس وحركة الأرض واجتماع مليون حيوان في قطرة، لتتصوروا عظمة الصانع لأَوْقع الجمهورَ إما في التكذيب وأما في المغالطة مع أنفسهم والمكابرة معها بسبب أن حسهم الظاهريّ- أو غلط الحس- يرى سطحية الأرض ودوران الشمس من البديهيات المشاهَدة. والحال أن تشويش الاذهان- لاسيما في مقدار عشرة أعصر لتشهِّي بعض أهل زماننا- منافٍ لمنهاج الإرشاد وروح البلاغة.
يا هذا! لا تظنن قياس أمثالها على النظريات المستقبلة من أحوال الآخرة.. إذ الحس الظاهري لما لم يتعلق بجهة منها بقيت في درجة الامكان فيمكن الاعتقاد والاطمئنان بها فحقها الصريح التصريح بها. لكن ما نحن فيه لما خرج من درجة الامكان والاحتمال في نظرهم- بحكم غلط الحس- إلى درجة البداهة عندهم فحقه في نظر البلاغة الابهام والاطلاق احتراما لحسياتهم وحفظًا لاذهانهم من التشويش. ولكن مع ذلك اشار القرآن الكريم ورمز ولوّح إلى الحقيقة، وفتح الباب للأفكار ودعاها للدخول بنصب امارات وقرائن. فيا هذا! أن كنت من المنصفين إذا تأملت في دستور كلِّم الناس على قدر عقولهم ورأيت أن أفكار الجمهور لعدم اعداد الزمان والمحيط لا تتحمل ولاتهضم التكليف بمثل هذه الأمور- التي إنما تتولد بنتائج تلاحق الأفكار- لعرفت أن ما اختاره القرآن الكريم من الابهام والاطلاق من محض البلاغة ومن دلائل اعجازه.
اما الجواب عن الريب الثالث، وهو امالة بعض ظواهر الآيات إلى منافي الدلائل العقلية وما كشفه الفن:
فاعلم! أن المقصد الأصليّ في القرآن الكريم ارشادُ الجمهور إلى أربعة اساسات هي: اثبات الصانع الواحد، والنبوّة، والحشر، والعدالة.. فذكرُ الكائنات في القرآن الكريم إنما هو تبعيّ واستطراديّ للاستدلال؛ إذ ما نزل القرآن لدرس الجغرافيا والقوزموغرافيا، بل إنما ذكرَ الكائنات للاستدلال بالصنعة الإِلهية والنظام البديع على النظّام الحقيقي جل جلاله. والحال أن اثر الصنعة والعمد والنظام يتراءى في كل شيء. وكيف كان التشكل فلا علينا؛ إذ لا يتعلق بالمقصد الأصلي، فحينئذ ما دام أنه يبحث عنها للاستدلال، وما دام أنه يجب كونه معلوما قبل المدعى، وما دام أنه يستحسن وضوح الدليل.. كيف لا يقتضي الارشادُ والبلاغةُ تأنيسَ معتقداتهم الحسية، ومماشاة معلوماتهم الأدبية بامالة بعض ظواهر النصوص، إليها، لا ليدل عليها بل من قبيل الكنايات أو مستتبعات التراكيب مع وضع قرائن وامارات تشير إلى الحقيقة لأهل التحقيق.
مثلا: لو قال القرآن الكريم في مقام الاستدلال: أيها الناس! تفكّروا في سكون الشمس مع حركتها الصورية، وحركة الأرض اليومية والسنوية مع سكونها ظاهرًا، وتأملوا في غرائب الجاذب العموميّ بين النجوم، وانظروا إلى عجائب الالكتريك وإلى الامتزاجات الغير المتناهية بين العناصر السبعين، وإلى اجتماع الوف الوف حيوانات في قطرة ماء لِتعلموا أن الله على كل شيء قدير!.. لكان الدليل اخفى واغمضَ واشكلَ بدرجات من المدعى. وإنْ هذا إلا مناف لقاعدة الاستدلال. ثم لأنها من قبيل الكنايات لا يكون معانيها مدار صدق وكذب. ألا ترى أن لفظ قال ألفه يفيد خفة سواء كان أصله واوا أو قافا أو كافا.
الحاصل: أن القرآن الكريم لأنه نزل لجميع الإنسان في جميع الأعصار يكون هذه النقط الثلاث دلائل اعجازه. والذي علّم القرآنَ المعجِزَ أن نظر البشير النذير وبصيرته النقّادَة ادقّ وأجلّ وأجلى وأنفذ من أن يلتبس أو يشتبه عليه الحقيقة بالخيال، وأن مسلكه الحقّ أغنى وأعلى وأنزه وأرفع من أن يدلِّس أو يغالط على الناس!.